«الفجر» في رحلة للبحث عن ثلاث نساء من أبواب كنيسة القديسين إلي مشرحة كوم الدكة
كاتب الموضوع
رسالة
AvaMakar نائب المدير
عدد الرسائل : 4726 الكنيسة : القديس أنبا مقار العمل : Administration الشفيع : القديس أنبا مقار تاريخ التسجيل : 05/01/2010 نقاط : 14003 التقييم : 1
موضوع: «الفجر» في رحلة للبحث عن ثلاث نساء من أبواب كنيسة القديسين إلي مشرحة كوم الدكة السبت 08 يناير 2011, 2:27 pm
«الفجر» في رحلة للبحث عن ثلاث نساء من أبواب كنيسة القديسين إلي مشرحة كوم الدكة
سقط عرش التسامح الذي استوي علي بحر هذه المدينة لسنوات وعقود.. سقطت كلمات الهوي والعشق التي ميزت المدينة وحملت طابعها ورسمت شكل شوارعها.. لم أجد سوي بقع من الدم.. هتافات عنصرية غاضبة.. رنين كنيسة حزين.. أذان مسجد متوتر.. وبحر هادر منزوع الموج كأنها برك مياه قعيدة لا تقوي علي البوح.. من هنا.. من تاج المتوسط وعليائه نسجل هذه الرحلة المعجونة بالأنين والحسرة. ظهرت عند تقاطع شارع خليل حمادة قرابة العاشرة صباحا.. صوتها شرخ جدار الصمت المزيف.. وقدماها تجر الأرض كلها.. لكنها لا تتوقف عن الصراخ حينا والنحيب حينا حتي وصلت إلي باب الكنيسة، فالتف حولها جموع الشباب الذين وقفوا علي البوابة علي استعداد دائم للتظاهر.. وجهت كلماتها إلينا الواقفين علي الرصيف المواجه للكنيسة.. "أريد أن أدفنهم فقط " بعدها دخلت إلي الكنيسة مع مجموعة من السيدات الباكيات والرجال، حيث تبين أنهم أبناؤها الذين نجوا من الانفجار. في هذه اللحظة، حضرني مشهد الوداع القاسي الذي شهده دير ماري مينا الذي يبعد عن الإسكندرية بـ40 كيلو تقريبا، هذا المشهد الذي ذهب فيه غالبية أهالي الضحايا لالقاء نظرة الوداع الأخير علي اجساد تعرفوا عليها بصعوبة شديدة، بل إن هناك عددا كبيرا من الذين ذهبوا إلي قداس الجنازة دون ان يتعرفوا بعد علي أبنائهم واقربائهم، فالجنازة نظمت في اليوم التالي مباشرة من الحادث، حيث تبقي ما يزيد علي 10 أشخاص في عداد المفقودين وظل ذووهم يبحثون عنهم طيلة الليل ولما فقدوا الأمل في الوصول إلي نتيجة، اضطروا إلي الذهاب إلي القداس الجماعي الذين نظم بشكل مفاجئ في دير ماري مينا تحسبا أن يكون اقرباؤهم بين الجثث المجمعة بالخطأ حتي يلقوا عليهم نظرة الوداع.. وكان المشهد المروع بالدير لحظة دخول الجثامين إلي مرقدها الأخير الذي بني في عدد قليل جدا من الساعات طبقا للتعليمات الأمنية إلي أمرت بدفنها داخل الدير حتي لا يخرج أهالي الضحايا إلي الشارع مرة أخري وتحدث أزمات لن تستطيع الأجهزة الأمنية صدها أو السيطرة عليها كما حدث في سيدي بشر. عدت مرة أخري إليها.. وجدتها وسط الأكوام البشرية المتناثرة حولها تواسيها.. جالسة علي كرسي تتحدث إلي نفسها بينما تبكي بناتها.. لكنها ظلت متماسكة تتحدث بقوة.. جاءت السيدة عزيزة كامل إلي قداس يوم الأحد في كنيسة القديسين لتصلي علي الذين فقدتهم في الانفجار المروع.. جاءت بصحبة أقربائها وبناتها، لكنها أصرت علي الحضور رغم مرضها وآلام مفاصلها التي لم يعد يصلح معها المسكنات أو دواء الروماتيزم المعتاد.. وقفت إلي جوارها أربت علي كتفيها أستميحها عذرا لعلها تغفر لنا جميعا اخطاءنا فكلنا ضحايا في هذا الحادث وكلنا قتلي ايضا.. بدأت تتحدث معي وقالت " مش عايزة حاجة خالص.. عايزة أدفن بناتي.. لحد دلوقتي مش عارفة هما فين "عرفت منها أن ابنتيها زاهية وتريزا بالإضافة إلي حفيدتها ماري داود سليمان" حضرن جميعا إلي الكنيسة في قداس عيد الميلاد للصلاة ولم تظهر لهم جثة حتي التقينا في الكنيسة.. سألتها عن بناتها ومصيرهن فقالت غاضبة.. "خلاص راحوا .. تحويشة العمر كله راحت" ثم تابعت "عايزة أتكلم للريس أو للوزير عايزة أقوله مش عايزة منكم أي حاجة، مش عايزة منكم غير جثث بناتي عشان أعرف أدفنهم وأعرف أزورهم لما يوحشوني.. حرام أعيش من غير ما أعرف هما فين". سألت سيدة وقفت بجوار الجدة عزيزة كامل عن حقيقة ما حدث لبناتها، فأشارت لي بعينها كي أتوقف عن الحديث أمامها وسحبتني إلي ركن بعيد عن عين الجدة عزيزة.. قالت "شامية إبراهيم صليب لي إنها ابنة شقيقة الجدة عزيزة وأن الثلاث المفقودات خرجن جميعا إلي القداس منذ الساعة التاسعة مساء.. حيث خرجت الشقيقتان تريزا وزاهية وحدهما، حتي قابلتا ماري داود الطبيبة التي كانت تعمل في مستشفي مارمرقص التابعة للكنيسة التي تقع بجوارها.. دخلت الثلاث إلي الكنيسة في موعد القداس وقضين وقتا طويلا بالداخل حتي موعد الخروج، وأثناء الانفجار علمت العائلة بما حدث كما عرفوا أن الثلاث كن ضمن الخارجين.. لم يبلغوا الجدة عزيزة بما حدث ونزل الشاب كيرلوس داود ابن تريزا فوزي وشقيق ماري ليبحث عن أخته وأمه وخالته كما نزل أشقاء تريزا وزاهية مسرعين إلي مكان الحادث.. في هذه الوقت كانت أشلاء الضحايا متناثرة هنا وهناك، ويصعب التعرف عليها بين برك الدماء التي تكونت علي باب الكنيسة.. وقيل إن اسعاف المستشفيات القريبة حضر إلي مكان الحادث ونقل بعض الجثث اليها نظرا لفظاعة المشهد، كما نقل جميع المصابين إلي وحدات الطوارئ لذلك ذهب أفراد العائلة إلي هناك للبحث عن الثلاث سيدات بين المصابين.. وبالطبع تمنوا أن يكن من بينهم، خاصة ان المشهد الدامي الذي غطي بوابة الكنيسة استحال معه أن يتوصل أحد إلي اقاربه خاصة أن النيران اشتعلت علي مراحل بشارع خليل حمادة ولذلك ظن البعض انها قنبلتان.. ظل الشاب كيرلوس ذو الواحد والعشرين عاما، يبحث مع اقربائه طوال الليل.. وكان من المعروف أن الجدة عزيزة تنام منذ التاسعة مساء، فتحاشوا أن يبلغوها بما حدث.. لكن الجيران سارعوا إليها ليسألوها عن أبنائها الذين ذهبوا إلي القداس مع عدد كبير من اقباط سيدي بشر.. وهنا علمت بالخبر.. فبدأت بالبكاء الهيستيري دون أن تعلم ماذا حدث.. ودون ان تعلم انها فقدت بنتين وحفيدة.. لكن قلبها ابلغها بالخبر حتي دون أن يعلمها أحد بتفاصيل ما حدث.. وظلت ترجو كل من حولها ان يتصل بأبنائها أو حفيدها كيرلوس.. وفعلوا ذلك بالفعل، لكن الأخبار جاءت كلها سيئة.. فكل المعلومات المتاحة تقول إن الثلاث فقدن ولم تظهر لهن جثة ولم يظهرن بين المصابين في المستشفيات.. وحينها حاولت الجدة عزيزة الخروج من المنزل، لكن الجيران منعوها وقالوا لها انه لا فائدة من محاولة الخروج.. مرت هذه الليلة ثقيلة علي الجميع.. العائلة برجالها ونسائها في الشارع بين المشرحة والمستشفيات والجدة تنحب في بيتها علي الغائبين.. ولكن دون فائدة.. في صباح اليوم التالي تبين أنهم عثروا علي جثة يشتبه أنها لتريزا فوزي صابر.. فتعرف عليها أخواتها البنات داخل مشرحة كوم الدكة في ملامح محترقة ودون ساقين.. خرجوا يجرون دموعهم، وعادوا إلي المنزل وأبلغوا الجدة عزيزة بما شاهدوه.. وظلت هي تحث الجميع علي مواصلة البحث عن ابنتها زاهية وحفيدتها ماري، لكن الجميع قد تعب ووهن من البحث المستمر الذي دام لأكثر من أربع وعشرين ساعة متواصلة.. ومع نهاية النهار، علموا جميعا أن الحكومة قررت تنظيم القداس بشكل مفاجئ في دير ماري مينا، فذهبوا جميعا إلي الدير لوداع أختهم الكبري تريزا التي دفنت دون ابنتها الكبري وأختها.. وبعد العودة من القداس.. لم تنم الجدة عزيزة وظلت طوال ليلة كاملة تنادي علي أبنائها الغائبين.. بينما حاول بعض أفراد العائلة يبحثون عن المفقودات.. وحتي صباح الأحد.. لم تكن الجدة عزيزة وصلت إلي من يطفئ نار قلبها.. وحين قابلتها.. طلبت مني بتوسل أن أبحث عن اسماء بناتها.. في هذه اللحظة شعرت بأن هناك دورا آخر في الحياة لابد أن يلعبه الانسان بصرف النظر عن دوره المهني.. عرفت من صديقنا الاسكندراني مكان المشرحة وذهبت مع مصورنا أحمد حماد إلي هناك.. لكنه رفض الدخول وقال لي لا استطيع.. دخلت إلي هناك بترقب وحذر.. وسألت عن المسئول الذي عرفت اسمه من بعض المصادر.. حكيت له القصة بكاملها، وقال سأحاول أن اساعدك.. دخل إلي غرفة الثلاجة وخرج وقال لي إنه لا يتبقي من جثث الضحايا سوي ثلاث فقط وأسماؤهم لا تتطابق مع أسماء ماري وزاهية.. فطلبت منه الاطلاع علي الكشوف.. وحينها اكتشفت أن جثة تريزا خرجت بالفعل، لكن الباقي لا وجود له في المشرحة، يئست.. وقبل خروجي من الباب استدعاني مسئول المشرحة وأكد أن جثة ماري فوزي صابر موجودة بالداخل وأن أهلها لم يتعرفوا عليها بعد.. نقلت هذه المعلومات إلي صحفي زميل لنا كان قد ذهب إلي أهالي الضحايا، وتركته علي وعد أن يوصل المعلومة للعائلة.. عدت إلي القاهرة وظللت أتابع رحلة البحث عن زاهية فوزي صابر.. وكانت المفاجأة أن وزارة الصحة أصدرت تقريرا مجمعا بأسماء القتلي ولم يرد به اسم زاهية ابنة الجدة عزيزة المفقودة.. ولا حتي في عداد المفقودين.. اندهشت مما حدث، وقلت لنفسي.. هل ستعيش الجدة عزيزة البقية الباقية من عمرها وهي تبحث عن جثمان ابنتها.. نتوسل للمسئولين جميعا أن يريحوا هذه الجدة من عذابها قبل أن يصحبها إلي ساحة الملكوت.
المصدر: الفجر
«الفجر» في رحلة للبحث عن ثلاث نساء من أبواب كنيسة القديسين إلي مشرحة كوم الدكة