و
كانت الجراء الأربعة خارج وجارها و لكن الام ذئبة رأته و هي جالسة داخله
فعرفت من أنفاسه المضطربة إن أمرا يزعج ضفدعها الصغير .قالت:
- ما الذي يقلقك يا بني ؟
فاجاب:
- أقاويل تافهة يرددها شيرخان. سأخرج الليلة إلى الحقول.
و
انحدر مسرعا بين الشجيرات إلى الغدير الذي يجري في بطن الوادي و هناك أحجم
عن المسير قليلا فقد سمع أصوات العشيرة و هي تصيد. و تردد في أذنه نبيب
وعل يطارد اعقبها زمجرة عندما استدارت الفريسة و هربت إلى الخليج. و تعالى
عواء قاس شرير و هتفت الذئاب الفتية تقول:
- اكيلا اكيلا دعوا الذئب الأوحد يستعرض قوته أفسحوا مكانا لزعيم العشيرة اقفز يا اكيلا!
و يبدو أن الذئب الأوحد وثب على فريسة فاخطاها فقد سمع موجلي صرير اسنائه ثم عواء الألم الذي أطلقه عندما ركله الوعل بساقه.
و لم ينتظر موجلي اكثر من ذلك واندفع في طريقه جريا فتضاءلت الأصوات في أذنيه و هو يتوغل في حقول القمح حيث يعيش القرويون.
و قال لنفسه:
- لقد صدق بجهيرا.
و اختفى بين أكياس عشب الماشية الجاف بجوار كوخ من الأكواخ ثم قال:
- سيكون الغد يومي و يوم اكيلا أيضا.
و
الصق وجهه بجانب نافذة الكوخ و جعل يتأمل نار الموقد فرأى زوجة القروي
تنهض و تغذي النار بكتل سوداء و عندما تنفس الصبح و انتشر في الجو ضباب
بارد رأى موجلي ابن القروي يأتي بسلة من الخيزران المجدول و قد بطن داخلها
بالطين و اخذ يملؤها بالفحم الأحمر المشتعل ثم وضعها تحت عباءته و خرج بها
إلى حظيرة الأبقار.
فقال موجلي لنفسه:
- اهكذا كل شيء؟ إذا كان جرو مثله يستطيع أن يفعل ذلك فلا داعي للخوف.
و ترك مكانه و قصد الصبي و انتزع الوعاء من يده و اختفى بين طبقات الضباب و قال لنفسه:
- هؤلاء القوم يشبهونني كثيرا!
و نفخ في النار كما رأى المرأة تفعل و استطرد قائلا:
- سيموت هذا الشيء إذا لم أطعمه.
و
ألقى فوق الفحم المشتعل أغصانا صغيرة و بعضا من لحاء الأشجار الجافة. و في
منتصف طريقه نظر إلى قمة التل فرأى بجهيرا ينتظر و قد تساقط الندى على
جسده فلمع كأنه اللؤلؤ.
فقال النمر:
لقد اخطأ اكيلا صيده و أن القوم
استضعفوه و كادوا يقتلونه أمس لولا انهم يريدونك أيضا و قد بحثوا عنك
كثيرا فوق التل. و رفع موجلي إناء النار بين يديه و قال:
- كنت في الحقول و أنا الآن على أتم استعداد لمقابلتهم فانظر ما أحضرته معي!
فقال بجهيرا:
- حسنا فعلت و قد سبق أن رأيت رجالا يضعون في هذا الإناء غصنا جافا فتتألق الوردة الحمراء عند أطرافه. اانت خائف؟
- لا و لم أخاف . اذكر الآن – إن لم يكن حلما – كيف كنت قبل أن اصبح ذئبا بجوار الوردة الحمراء فتبعث في جسدي دفئا ممتعا.
و
ظل موجلي طيلة اليوم جالسا في كهفه و هو يذكي النيران و يضع فيها الاحطاب
الجافة فتزيد تألقا. و احتفظ بغصن كبير ألقاه بجانبه فلما جاءه تاباكي في
المساء و دعاه في قحة و غلظة الى صخرة الشورى ضحك الصبي كثيرا حتى تملك
الخوف تاباكي فابتعد مسرعا و سار موجلي بعد ذلك إلى الصخرة و هو مازال
ضاحكا.
و كان الذئب الأوحد اكيلا لا يرقد فوق صخرته بل بجوارها إيذانا
بان زعامة العشيرة قد غدت شاغرة في حين أن شيرخان جعل يسير جيئة و ذهابا
في جرأة عظيمة تتبعه أكلة الفضلات من الذئاب بادية الغرور الكاذب . و جثم
بجهيرا بالقرب من موجلي الذي أخفى إناء النار بين ركبتيه. و عندما اكتمل
العدد تكلم شيرخان و هو أمر لم يكن يجرؤ عليه أيام مجد اكيلا و سلطانه.
و تمتم بجهيرا يهمس في أذن موجلي:
- ليس من حقه أن يتكلم.انهض و قل له ذلك و سيغيظ كلامك ابن الكلاب.
و قفز موجلي واقفا و هتف قائلا:
- يا شعب الأحرار بأي حق يتدخل ببر في أمر زعامتنا؟! أيقود شيرخان العشيرة؟
أجاب شيرخان:
- إن الزعامة شاغرة و أنني دعيت إلى الكلام.
فقاطعه موجلي:
- و من الذي دعاك؟ انحن جميعا بنات آوى حتى نذل و نخضع لقصاب الماشية هذا؟ إن النظر في زعامة العشيرة من شان العشيرة فقط.
و تعالت صرخات عدة تقول:
- صه يا جرو البشر. دعه يتكلم فقد تبع قانوننا و احترمه و هتف شيوخ العشيرة قائلين:
- دعوا الذئب الميت يتكلم.
فقد جرت العادة أن الزعيم المخلوع يسمى بالذئب الميت حتى يموت و هو عادة لا يبقى على قيد الحياة غير وقت قصير.
و رفع اكيلا الهرم رأسه في مشقة و صعوبة و قال:
-
يا شعب الأحرار و انتم أيضا يا شعب بنات آوى و اتباع شيرخان. عشر سنوات
مضت و أنا أقودكم إلى الصيد و أعود بكم منه ظافرين. لم يقع أحدكم خلال هذه
الفترة الطويلة في شرك و لم يفقد قدما و لا ذراعا. و لكنني الآن أخطأت
فريستي و كلكم يعرف حق المعرفة كيف دبرت هذه المكيدة فلقد دفعتموني بمهارة
إلى مهاة قوية لتكشف عن ضعفي و من حقكم أن تقتلوني اليوم فوق هذه الصخرة
فمن منكم يرغب في وضع حد لحياة الذئب الأوحد؟ إن دستور الغابة يحتم عليكم
مقاتلتي واحدا اثر واحد.
و خيم صمت عميق فما من ذئب جرؤ وحده على مقاتلة اكيلا حتى الموت.
و زأر شيرخان قائلا:
-
لا يهمكم أمر هذا الأهتم الأبله فجرو البشر هو الذي يستحق الاهتمام فقد
امتدت به الحياة و ما كان ينبغي له أن يعيش يا شعب الأحرار إن الصبي صيدي
منذ البداية فسلموه إلى. لقد سئمت سخافة هذا الذئب البشري الذي عكر على
العشيرة صفو الغابة عشر سنوات. أعطوني جرو البشر و إلا بقيت هنا اصطاد دون
أن أمنحكم عظمة واحدة. انه بشر و ابن بشر و لذلك اكرهه اشد الكره.
و تعالت الأصوات تقول:
- بشر! بشر! ما لنا و للبشر ؟! فليذهب من حيث أتى.
فصرخ شيرخان احتجاجا و قال:
-
أيعود من حيث أتى ليثير علينا القرويين جميع ؟ لا لا بل أعطوني إياه فهو
بشر و لا يستطيع أحدنا أن يواجه نظراته فرفع اكيلا رأسه ثانية و قال:
- لقد شاركنا في الطعام و في المنام و خرج معنا إلى الصيد و لم يخالف قانون الغابة مرة واحدة.
و قال بجهيرا بصوته الناعم:
- و عندما أتى اشتريت حياته بثور.إن قيمة الثور تافهة و لكن شرف بجهيرا أمر عظيم قد يقاتل من اجله.
فزمجرت الذئاب قائلة:
- ثور أكلناه من عشرة أعوام اتهمنا عظام طال عليها البلى؟
و أجاب بجهيرا و قد كشر عن أنيابه البيضاء:
- أولا تهمكم الوعود؟ اانتم شعب الأحرار؟
و صرخ شيرخان قائلا:
- ليس لجرو بشري أن يعيش مع أهل الغابة أعطوني إياه أعطوني إياه.
و عاد اكيلا إلى الحديث:
-
أتريدون قتله و هو أخونا في كل شيء عدا الدم؟ لقد جربت كثيرا و عشت حتى
سئمت العيش فرأيت بعضكم قد تغير حتى صار من أكلة الماشية و البعض الآخر
يذهب تحت ستار الظلام بوحي شيرخان و إغرائه و يخطف الأطفال من أبواب
القرويين.هؤلاء إذن جبناء و إلى الجبناء سأتوجه بالحديث. اعرف انه يجيب
علي أن أموت و لو كانت لحياتي قيمة لدفعتها ثمنا لجرو البشر. و لكني سأقدم
لكم عرضا سخيا من اجل شرف العشيرة الذي نسيتموه و انتم بغير زعيم. أعدكم-
إذا تركتم جرو البشر يعود سليما إلى أهله – ألا أقاتلكم و لا ارفع نابا
عليكم عندما تحين نهايتي. سأموت دون قتال و بذلك ابقي للعشيرة ثلاثة أرواح
على الأقل. و سينقذكم هذا الاقتراح من عار قتل شقيق لا عيب فيه و لا تثريب
عليه شقيق أيده اثنان و افتديت حياته طبقا لقانون الغابة.
فزمجرت العشيرة قائلة:
- و لكنه بشر.
و التف معظم الذئاب حول شيرخان فرقص ذيله طربا.
فقال بجهيرا لموجلي:
- الأمر الآن بين يديك فليس في وسعنا أن نفعل غير القتال.
و
نهض موجلي و انتصبت قامته وما و ما زال وعاء النار بين قدميه ثم رفع
ذراعيه و تثاءب أمام المجتمعين ليظهر عدم اهتمامه و لكنه كان في الواقع
ثائرا غاضبا إذ لم تكشف له الذئاب قبل ذلك عن مبلغ كراهيتها له و حقدها
عليه.
و هتف الصبي قائلا:
- أصغوا إلى فلا حاجة لنباح الكلاب الذي
ترددونه. لقد سمعت منكم كثيرا هذه الليلة فقلتم إنني بشر و إن كنت افضل أن
أضل ذئبا بينكم إلى نهاية العمر. لقد صدقتم و لذلك اعتبركم اخوتي بعد
اليوم و سأسميكم كلابا كما يقول البشر ليس لكم أن تقرروا ما يجب أن تفعلوا
أو ما لا يجب فالأمر بين يدي أنا و قد عزمت على أن أطلعكم على حقيقة الأمر
في وضوح و أعلمكم أنني – أنا المخلوق البشري – قد أحضرت معي قليلا من
الوردة الحمراء التي تخافونها يا معشر الكلاب.
و ألقى وعاء النار إلى
الأرض فاشتعلت الأعشاب الجافة و تراجع المجتمعون رعبا أمام اللهيب
المتراقص.و دفع موجلي غصنه الجاف في هذا اللهيب. فتألق طرفه و قرقع ثم جعل
يطوح به فوق رؤوس الذئاب الخائفة.
قال بجهيرا في صوت خفيض:
- انك سيد الموقف فأنقذ اكيلا من الموت. لقد كان أبدا صديقك.
و
ألقي اكيلا العجوز الذي لم يستجد في حياته عطفا و لا شفقة على موجلي نظرة
كلها رجاء و استعطاف . ووقف الصبي متحفزا و قد تهدل شعره الأسود المتماوج
فوق كتفيه و انعكس عليه ضوء الغصن المشتعل الذي جعل الأشباح الجالسة تقفز
و ترتجف.
قال موجلي و هو يتأمل من حوله في بطء:
- حسنا. أرى الآن
أنكم – بلا ريب – كلاب. سأذهب عنكم إلى عشيرتي ما دامت الغابة قد أغلقت في
وجهي و علي أن أنسى حديثكم و صحبتكم و لكني ساكون ارحم منكم و عندما أعيش
بين البشر لن أخونكم كما خنتموني لأنني كنت أخاكم في كل شيء عدا الدم.
و دفع النار بقدمه فازداد اللهيب اشتعالا:
- لن تقوم حرب بيننا و بين عشيرتكم و لكن علي دين يجب أن أوفيه قبل الرحيل.
و تقدم نحو شيرخان الذي كان يجلس أمام اللهيب و يرمش و امسك بشعر ذقنه الكثيف فتبعه بجهيرا خشية وقوع مكروه و هتف موجلي إلى الببر.
- عندما يتحدث إليك أحد البشر انهض أمامه احتراما. انهض أيها الكلب و إلا أطلقت اللهيب في شعرك هذا.
و خفض شيرخان أذنيه خوفا و اغمض عينيه لشدة قرب الغصن المشتعل من وجهه.
و صاح موجلي:
-
يقول قاتل البقر هذا انه يريد أن يقتلني الآن لانه لم يستطع قتلي صغيرا.إذ
فخذ و خذ و خذ فهكذا يضرب البشر الكلاب و يؤدبونها . اقسم لو حركت شعرة
واحدة من شاربك أيها الأعرج لادفعن بالوردة الحمراء إلى بلعومك.
و انهال موجلي على شيرخان ضربا بالغصن فان الببر الما و خوفا ثم قال الصبي في تهكم:
-
اذهب الآن يا قط الغابة المدموغ و تذكر أنني يوم أعود ثانية إلى صخرة
الشورى سيكون جلدك فوق رأسي. و ليكن في علمكم أيها الباقون أن اكيلا لن
يقتل و سيظل على قيد الحياة حرا آمنا طليقا لأنني أريد ذلك لن أترككم
تجلسون هنا اكثر من ذلك و قد دليتم ألسنتكم مذكور لا كلاب حقيرة اطردها
متى أشاء . هيا هيا اذهبوا و انصرفوا.
و كانت النار تلتهب على الغصن في
شدة فراح موجلي يلوح يمينا و شمالا فهربت الذئاب و هي تعوي. و علق شرر
بشعر بعض الحيوانات فاجج نارا كادت تحرق جلدها. و انصرفوا جميع و هدأ
المكان و لم يبق غير اكيلا و بجهيرا و عشرة ذئاب أخرى من أصدقاء الصبي.
و أحس موجلي شيئا يوجعه في صدره و لم يكن إحساسه قد أثير كذلك من قبل. و تلاحقت أنفاسه و بكى فتسارعت الدموع من عينيه و قال:
- ما هذا ؟ لا أريد ترك الغابة و لست افهم معنى لما يتساقط من عيني .أتظن أنني أموت يا بجهيرا؟
فقال النمر:
-
لا أيها الأخ الصغير . هذه دموع يعرفها البشر. لقد صرت رجلا و لم تعد جروا
منذ الآن و قد صارت الغابة مغلقة في وجهك فدع الدموع تتساقط يا موجلي فما
هي بأكثر من قطرات ماء تفيض بها العيون.
و أحس موجلي أن قلبه يتحطم بين جنبيه فجلس و بكى كثيرا و لم يكن قد فعل ذلك من قبل.
و قال بعد أن هدأ:
- سأذهب إذا إلى البشر و لكنني احب أن أودع أمي أولا .
و قصد إلى الكهف الذي يعيش فيه الأب ذئب و أسرته و احتضن الام ذئبة و بكى كثيرا فانتحب اخوته الجراء الأربعة في أسى و قال موجلي:
- أتنسونني؟
- كلا بل سنذكرك ما دمنا أحياء تعال أحيانا إلى التل و لنتحدث معك و سنذهب نحن إلى الحقول لنلعب معك في الليل.و قال الأب ذئب:
- عد إلينا سريعا أيها الضفدع الصغير الحكيم عد سريعا و لا تغب عنا فأنا و أمك عجوزان.
و قالت الام ذئبة:
- نعم عد سريعا يا صغيري العزيز لأنني احبك يا ابن البشر اكثر مما احب جرائي..
فاجاب موكلي:
- سأعود حتما سأعود لافرش جلد شيرخان على صخرة الشورى. لا تنسوني و قولوا لهم في الغابة أن يذكروني.
و كان الفجر قد بدأ يشرق عندما انصرف موجلي و هبط التل في طريقه إلى هذه المخلوقات الغامضة التي يسمونها بشرا.
قصة موكلي <كتاب الادغال>
قصة موكلي - <للكاتب الكبير ردويار كبلينكس>